الأربعاء، 1 سبتمبر 2010

المناصير الجديدة .. اسمعي يا جارة ـ هشام آدم

مدونة هشام آدم

27 آب/أغسطس 2008م

ظلت مشاريع بناء السدود على مجرى نهر النيل في السودان يُشكل هاجساً إنسانياً في المقام الأول، ورغم تعالي الأصوات المنادية بوقف مثل هذه المشاريع التي لا تخلو من أهداف تنموية زائفة؛ إلا أن الحكومة السودانية ما تزال مصرة على أن تضع القطن على أذنيها، ليُصيبها الوقر، وتتغاضى عن مصائر الأسر السودانية المغلوب على أمرها، خدمةً لأجندة استثمارية معروفة بينها وبين الحكومة المصرية. فقد كان بناء السد العالي من الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها الحكومة المصرية، حيث عمل السد منذ عام 1964 على حجز الطمي، الأمر الذي أدى إلى أن تغمر بحيرة ناصر القرى النوبية الواقعة جنوب للسد، ورغم علم الحكومة السودانية وقتها بوقع كارثة إنسانية سوف تشمل أجزاء واسعة من بلاد النوبة؛ إلا أنها قامت بإرغام المواطنين على التهجير القسري، ووعدتهم بدفع تعويضات مجزية، غير أن الحكومة لم تصدق في وعودها. وحتى تاريخ اليوم فإن المواطنين النوبيين الذين تم تهجيرهم إلى حلفا الجديدة وخشم القربة يعانون من شح في البنى التحتية في مناطق التعويضات.
ولا يجهل الجميع الآثار السلبية للسد العالي على الجانبين السوداني والمصري على السواء؛ فإقامة السد العالي حرم النوبيين من الطمي الذي كان يُشكل مصدراً غذائياً هاماً لتربة أراضيهم الواقعة في ظل السد، كما أن وجود السد العالي يُشكل خطراً أمنياً وعسكرياً على مصر في حال تمّ تفجيره، وما سوف تسببه من فيضانات ستغمر كافة المدن المصرية، إضافة إلى مساعدة السد العالي في تآكل الدلتا، والخسائر الفادحة التي تجنيها مصر والسودان في الثورة المائية جراء تبخر كميات كبيرة جداً من المياه في تجمّع بحيرة ناصر؛ إذ تشير بعض التقارير إلى أن نسبة تبخّر هذه المياه توازي حصة العراق من نهر الفرات.

كان من المعتقد وجود هجمات مؤسسة ومدروسة سواء من قبل الحكومة المصرية أو الحكومة السودانية على قبائل النوبة الموزعة بين البلدين نوبة مصر في جنوب مصر و نوبة السودان في شمال السودان متمثلة في محاولات اقتلاع النوبيين من أراضيهم، وغمر الآثار والمعالم الحضارية بالمياه، وبالتالي انتزاع النوبيين من حضارتهم وتراثهم وإلى الأبد؛ إلا أن التطورات الكارثية الخطيرة التي حصلت مؤخراً لقبيلة المناصير جراء فيضان سد مروي أوضح الصورة بجلاء، فالأمر لم يكن مقصوداً به الإنسان النوبي فحسب؛ وإنما هي هجمة ضد الإنسان السوداني أينما وجد؛ طالما تعارض وجوده مع مصالح الحكومتين الاستثمارية والتوسعية.

أكثر من ستة آلاف أسرة من قبائل المناصير منفيون من بيوتهم الآن، ويعيشون في ملاجئ وخيام في قلب صحراء المكابراب، ويأتي الوعد الحكومي بالتعويض مجدداً وذلك بإقامة مدينة المناصير الجديدة والتي تخلو تماماً من الخدمات والمرافق الحيوية الأساسية التي يحتاج إليها السكان، وهو نفس ما حدث من قبل لأهالي حلفا القديمة الذين تم ترحيلهم إلى خشم القربة، وهي نفس الوعود التي تقطعها الحكومة لأهالي الشمالية طمعاً في إنشاء سدي دال وكجبار.

إن العرض الذي تقدمه الحكومة للمواطنين ما هو إلا تمثيل حقيقي لسياسة العصا والجزرة، حيث أن الحكومة لجأت إلى بيع أراضي المناصير لصالح مستثمرين عرب الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن حق السودانيين في السودان.
إن مناهضة قيام هذه السدود ليس رفضاً للمشاريع التنموية، لأنه ببساطة ليست هنالك عوائد تنموية واضحة تعود على المنطقة جراء إقامة هذه السدود، ويأتي ذلك على ضوء دراسات الجدوى، والدراسات الاقتصادية التي تؤكد عدم الإفادة من إقامة مثل هذه السدود، ولكنه أصبح مطلباً يتعلق بوجود الإنسان السوداني، ومن صميم حقوقه الدستورية التي تتجاهلها الحكومة السودانية، لتضع المواطن السوداني في درجة أقل بكثير مما يستحقه.

إن إقامة هذه السدود يصب في الحقيقة في خدمة مصلحتين متبادلتين لا ثالث لهما في جدول أعمال الحكومة السودانية: المصلحة الاستراتيجية والمتمثلة في رغبة الحكومة السودانية في إبقاء الخط الدبلوماسي مع مصر مفتوحاً؛ لاسيما بعد الأحداث والتطورات السياسية الأخيرة والتي أوقدت شرارتها الأولى مع تفاقم أزمة دارفور وتبعاتها لاحقاً، وتظل الحكومة السودانية راغبة في الحصول على دعم لوجستي من مصر في حال تفاقمت الأوضاع السياسية والأمنية، وفي الوقت نفسه تزيد الحكومة المصرية من نصيبها المنصوص عليه في اتفاقية مياه النيل الموقعة بين البلدين في عام 1959م.

والمصلحة الثانية هي مصلحة استثمارية تخدم الحكومتين المصرية والسودانية على السواء كذلك، فالحكومة السودانية تستفيد من بيع أراضيها داخل السودان لصالح الحكومة المصرية مقابل المال، وكذلك مقابل المساندة المصرية المحتملة، ومصر تستفيد من هذه الأراضي في توسيع مشاريعها الزراعية التي لا تتوفر لها كامل الظروف في الأراضي المصرية، ويتجلى ذلك واضحاً في مساعي الحكومة المصرية لزراعة القمح في السودان إثر أزمة الرغيف الطاحنة التي اجتاحت مصر مؤخراً.

وبين خوف الحكومة السودانية وجشع الحكومة المصرية يقبع المواطن السوداني بكل ذل وانكسار يدفع فواتير هذا الخوف وهذا الجشع، ويُسلب إرادة حياته وحقوقه الدستورية في الحصول على الحياة الكريمة التي يستحقها. ويبقى خطاب الحكومة السودانية لمواطني المناصير يوتوبيا حالمة لا يمكن تحققها، كما لم تتحقق الوعود السابقة، ويظل ما يجري للمناصير الآن تحذيراً للنوبيين الذين ما يزالون يصارعون من أجل منع قيام سدي دال و كجبار، لأنهم سيلاقون نفس المصير. فالحكومة السودانية لم تثبت صدق دعاواها التنموية في جميع المشاريع السابقة، فلماذا تصدق الآن؟

المصدر:

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق