الأربعاء، 1 سبتمبر 2010

المناصير: معاناة تبحث عن نهاية ـ محمد علي يوسف

موقع رماة الحدق

صحراء ممتدة تقطعها السيارة في أكثر من (5) ساعات في طرق غير ممهدة بعد تجاوز مدينة ابو حمد.. البرد قارص ليلاً والحر و(الكتاحات) نهاراً.. وديان منبسطة من الرمال والصخور تمتد على طول البصر هي تضاريس منطقة المناصير الذين تقع معظم قراهم في جزر او على شواطئ النيل ويعتمدون على النهر في كل معاشهم الذي يتوزع على الزراعة ورعي الحيوان إضافة لصيد الأسماك ورغم صعوبة الحياة في مناطقهم الوعرة وصعوبة الانتقال من والى المنطقه الا ان الكثيرين منهم تمسكوا بها ورفضوا الذهاب الى المشاريع السكنية والزراعية التي أعدتها لهم ادارة السدود.


استمر التوتر بين الحكومة والمناصير طيلة السنوات الثلاث الماضية وصل إلى حدّ قفل المنطقة امام المسؤولين الحكوميين في كثير من الاوقات وعدم السماح لهم بدخول المنطقة او مخاطبة الاهالي واستمر هذا الامر في تذبذب مع الحكومة رفضا وقبولا وعادت المياه الى مجاريها مرة اخرى بزيارة الوالي بروفيسور احمد المجذوب الى المنطقة 11 يناير الجاري.

بين نارين

زيارة حكومة الولاية الاخيرة الى المنطقة فتحت ابواباً امام إعادة العلاقات الطبيعية بين المناصير وحكومتهم الا ان عدداً من مواطني المنطقة لم يخفوا شكوكهم في أن لا تلتزم الحكومة بالاتفاق معهم، وقال عدد منهم لـ(السوداني) إن القضية ليست في الزيارة أو الاتفاق وتوقيعه ولكن ما يمكن ان يتحقق على الأرض وربما اعتبرها عدد من المستطلعين رجالاً ونساءً نوعا من تهدئة النفوس وتخدير المواطنين واعتبرها آخرون محاولة لتبييض وجه الحكومة وهي تدخل مرحلة الانتخابات وتحتاج لكل دعم ممكن من المواطنين واعتبرها آخرون محاولة من الحكومة لاصلاح الخطأ الذي وقع جزء منها فيه بمعاداة المناصير دون داعي، إلا أن تعليق رئيس اللجنة القومية لمتضرري السدود، مقرر لجنة أزمة السدود بهيئة القوي السياسية لإدارة الأزمات عبدالرحيم أحمد محمد أبن عوف الذي قال إن الزيارة محاولة لتخدير المواطنين ودفن الرؤوس في الرمال وتعقيداً لأزمة السدود في المنطقة باعتبار أن الولاية لا تملك صلاحية أو موارد مالية كافية لتعويض المتضررين وإنشاء الخيار المحلي لهم.

مغامرة ليلية

وصلنا إلى منطقة الكاب التي تبعد حوالى الـ(40) كلم عن منطقة العمارين التي تقع على الضفة الشمالية لشاطئ النيل والتي شهدت اللقاء الجماهيري الذي جمع مناصير المنطقة في وقت متأخر من الليل بعد أن غرزت (العربة البوكس) التي كانت تقل عميد كلية تنمية المجتمع بجامعة وادي النيل د. هشام محمد عباس في رمالها عدة مرات الذي كان متوجهاً الى المنطقة لتخريج دفعة من الطالبات اللائي تلقين دورات في تنمية المجتمع والتربية الريفية وبلغ عدد من استفدن من الدورة خلال الشهور الماضية (41) طالبة وقام الوفد الصحفي ووفد الجامعة بدفع العربة في كل مرة حتى تخرج من الرمل ريثما تصل الى موقع الكثيب التالي.

ليك مدة مابنت

خاطب الوالي الجماهير بعد أن نسيت المنطقة زيارات المسؤولين لفترة طويلة وتجاوز حشد المناصير الذين حضروا اللقاء (10 آلاف مواطن) حضروا من الجزر وقرى المناصير المختلفة، وبدا واضحاً الدمار الذي سببه اغراق بحيرة السد الذي أصاب الجزر من ضفة النهر بالقرب من العمارين وبدت جزيرة شري إحدى أكبر جزر المناصير وقد غرقت معظم أراضيها واصبح سعف النخيل الغارق وقمم اشجار الدوم هي المعلم الواضح لمساحة الأرض التي اغرقتها المياه وبالرغم من الماء الذي يحاصر الجزيرة الى ان سكانها (اكثر من 4 آلاف مواطن) رفضوا الخروج منها وتوجهوا الى المناطق المرتفعة التي في الجزيرة وانشأو الخيام والرواكيب واستقروا بها. قصة الغراق العم كرار احمد كرار والشيخ محمد عمر النفعابي رجلان في نهاية العقد السادس من العمر افتتح أحدهما محلاً لبيع المواد التموينية (كنتين)، مبنياً من القش وسعف النخيل (راكوبة)، وجلس الآخر يسامره بعد ان اغرق النيل مزرعته وحواشته وأصبح مزارعاً بلا عمل فور معرفتهما بأننا من الصحافة بدأ في رواية أحداث ارتفاع منسوب الماء وغرق الجزيرة والذي كانوا يسمونه (الغراق) والتي خسر كلا الرجلين معظم ممتلكاتهما بسببه، فالسرعة التي ارتفعت فيها مياه النيل وتجاوزها الترس (الردمية) التي اقاموها حول الجزيرة واندفاع المياه الى داخل الجزيرة.. يحكي العم كرار بدأت المياه في اكتوبر الماضي تتجاوز الترس بعد صلاة العشاء فقام المواطنون باستخدام مكبرات الصوت في المسجد لتحذير المواطنين من ارتتفاع المياه وبدأ ت المراكب تصل الى جزيرة شري من الجزر المجاورة لحمل المواطنين واخراجهم من الجزيرة ولم يستطع الكثيرون انقاذ ممتلكاتهم أو البوابير التي كانت توصل الماء الى مزارعهم. ويواصل العم كرار بعد أن صمت لبرهة وكأنه يتذكر احداث ذلك اليوم انه تم انقاذ جميع المواطنين ولم يغرق أحد ولكن الممتلكات والحيوانات والاموال وحتى (ذهب عدد من النساء) غرق وسط الماء الذي ارتفع لأكثر من (15 متراً في بعض المناطق) وبدأ الناس في نقل ما يمكن مع ان البعض كان قد بدأ قبل الغرق بترحيل بعض ممتلكاته. ولكن الغالبية العظمى من المواطنين فقدوا معظم ما يملكون.

غياب حكومي

تسلم العم النفعابي طرف الحديث وقال إن عمليات الانقاذ استمرت إلى منتصف نهار اليوم التالي بمجهود المواطنين دون أي وجود حكومي وقال إن شباب المنطقة اضافة لمواطني الجزر الاخرى حضروا الى المنطقة وساعدوا المواطنين على الوصول الى مناطق مرتفعة وسط الجزيرة (الجزيرة كبيرة الحجم وبها الكثير من المناطق المرتفعة في وسطها والمزارع والحواشات تحيط بها على شريط النيل) كما حضرت معظم المراكب التي عملت على حمل المواطنين من مناطهم التي حاصرتهم فيها المياه الى مناطق اخرى. وقال إن معظم الأغذية والمشمعات والخيام احضرتها المنظمات الطوعية ولم تحضرها الحكومة وتم توزيع المساعدات على المواطنين واقيمت مدارس ومستشفى من الخيام لانقاذ المواطنين. ويواصل العم النفعابي أن حال الكثيرين في المنطقة أفضل من حالت نظرائهم في قرى برتي التي غرقت منذ أكثر من (7) أشهر ولم يتمكنوا من جني محصولات التمر أو غيره من المحصولات وأصبحوا في أوضاع مالية سيئة، اما اهالي جزيرة شري فقد استطاعوا ان يجمعو جزءاً من محصولات العام الماضي لذلك فمعظمهم يعيش على ما ادخره من ذلك المحصول.

عطالة وفلس

وقال العم نفعابي إن مدخراته شارفت على النفاد، خاصة وأن المزارعين لم يستطيعوا زراعة الموسم الشتوي لعدم توفر أراضٍ او تمويل وحتى الماشية (الضان والغنم) نفق الكثير منها بسبب العقارب والثعابين التي خرجت بعد أن غمرت المياه المنطقة وارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية، واتفق معه في ذلك العم السبعيني عمارة احمد حمزة الذي زاد ان الاهالي يعيشون على مدخراتهم او بمساعدة ابنائهم الذين يعملون في مناطق أخرى. وقال ان القرى التي غرقت هي (برتي، الفرسيب، دربي، الكربكان، بوني، اوسن، سور) وفي بعض القرى دهم الفيضان أهل المنطقة وأغرق معظم ممتلكاتهم ولم يستطيعوا اخراج شيء والكثير من النقود والذهب غرق في تلك المناطق.

يشيلوها من رأسهم

حديث العم عمارة لم يخلُ من الطرافة وهو يروي لنا احداثاً وقعت قبل خروج المستعمر، وقال (في سنة 1953م كنت أحمل يحيى الفضلي فوق كتفي ونحن نهتف معه يسقط هاو يسقط هاو دايرين الاستقلال وهاو ده منو ما عارفينه أهو نهتف يسقط الاستعمار دايرين الاستقلال لمن جا الاستقلال وحكمونا اهلنا وفي آخرها غرقونا).. ولم يقف العم عمارة عند حد انتقاد الوضع بل انه رد على استفهامنا عن أن المناصير رفضوا استقبال الوالي قبل فترة عندما أراد زيارتهم بالقول (الوالي عندما جاء كانت لجنة المناصير المتأثرين في السجن نسوي شنو يعني..؟) واستطرد في حديثه عن الخيار المحلي الذي كانوا يطالبون به وأقرته حكومة الولاية في الفترة الاخيرة وقال "يا ولدي حكاية إننا نقوم من بلدنا دي اليمرقوها من رأسهم.. عشنا هنا وحنموت إن شاء الله هنا". ورغم أننا لم نعرف صاحب الرأس الذي يقصده العم عمارة الا انه استمر في حديثه عن تمسكهم الكامل بأراضيهم. وقال "لو بدلو لينا جزيرتنا دي بي توتي نحن ما دايرينها..!" وأردف يا ولدي هواء زي ده وأمن زي ده ما بنلقاه في أي مكان في الدنيا..

اليدونا حقنا

الشيخ خليفة سليمان (ود العقبة) قال إن المناصير لا يريدون إغاثة او انقاذا. والمنصوري يستطيع ان يزرع الحياة وسط الصخر لذلك بدلاً من قوافل الاغاثة اليعوضونا عن حقنا ونحن نعرف كيف يمكننا ان نزرع الحياة في قلب هذه الصحراء دون أن نفارق بلد أجدادنا، وأضاف ان المناصير تنازلوا طواعية عن أرضهم وتاريخهم لصالح السودان بعد ان قالت الحكومة ان السد سيزيل فقر السودان، لذلك فليس أقل من تعويضهم عن أرضهم وزرعهم ليتمكنوا من استعادة حياتهم في الأماكن التي يريدونها، وقال إن المناصير من أكثر بلاد الأرض امناً ولكن الحكومة تحاول ان تقنعنا بأن بلدنا غير آمنة ونحن لا نريد إلا أن يتم تعويضنا وتركنا نختار ما نريد، وعدم إجبارنا وتهجيرنا من أراضينا.

المصدر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق